مخاطر ترك الحسبة(1)
الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله:
أمَّا بعد:
فتعتبر الحسبة من كُبريات القضايا، ومُهمات المسائل في الشَّريعة، وذلك لعظم متعلِقاتِها بالمجتمع والقيم، ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الفقه، أوِ السِّياسة الشَّرعيَّة، إلا وفيه إيضاحٌ وبيانٌ لهذه القضية المهمة، وأنَّ الله -جلَّ في علاه- قد جعل مناط عز هذه الأمَّة بالقيام بهذه الشَّعيرة، وجعل هلاك هذه الأمَّة بترك هذه الشَّعيرة حيث قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «والَّذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثمَّ تدعونه فلا يستجيب لكم» (2).
كما أنَّ عدم استقراء التَّاريخ، والتَّأمُّل في أسباب سقوط الدُّول، هو سبب آخر لعدم تفهم أهمية هذه الشَّعيرة، حيث إنَّ السُّقوط لا يتأتى مباشرةً، بل يسبقه عوامل كثيرة، لعل أهمها هو إهمال هذه الشَّعيرة، وتعطيلها، فبالحسبة تحفظ سياج الأمَّة، ولما وقعت غربة الإسلام، واندرست معالمه، وأصبح المسلم يعيش كالقابض على الجمر، وتفشت المنكرات نتيجة تقصير الأمَّة وإخلالها بهذا الشَّأن، فالإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في حال الضَّعف وفي حال القوَّة، وحسبنا أن نعلم أن المسلم دائمًا في حالة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وأقل ما يجب هو أن يأمر نفسه بالمعروف وأن ينهاها عن المنكر، ففرض عين على كلِّ مسلمٍ أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر في نفسه وفيما تملك يده في بيته، وإدراته، ومدرسته، وفي كلِّ ما له عليه سلطة وولاية ومقدرة على التَّغيير باليد، وفرض على الأمَّة جميعًا أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
لما غابت هذه الحقائق عن الأمَّة، أصبح المؤمن يعيش في حال الغربة، وأصبحت السُّنَّة بدعةً، والبدعة سنَّةً، وأصبحت بعض المعاصي علامةً على أنَّ الإنسان حسن الأخلاق، أو مهذب الطِّباع، أو اجتماعي، أو غير متشدِّد أو متزمت، وأصبحت الدَّعوة إلى ترك بعض المنكرات الظَّاهرة علامة على أن هذا الإنسان فيه وفيه... من الصِّفات الَّتي لا تليق، وليست بصفات مدح على أي حال.
مخاطر ترك الحسبة:
1- التَّعرض لغضب الله -سبحانه وتعالى-:
وذلك لأنَّ المعاصي والذُّنوب سببٌ لغضب الله -عزَّ وجلَّ-؛ لأنَّه لا يحبُّ الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وهو أعظم غيرة أن تنتهك محارمه وأن يعتدى على حدوده -سبحانه وتعالى-.
2- السُّكوت على المنكرات سببٌ للهلاك والعقاب الإلهي:
يقول الله -عزَّ وجلَّ-: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]، ولا شكَّ أنَّ ظهور المنكرات سببٌ لهلاك الأمم وذهاب الدُّول وتسلُّط الأعداء فعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزَّرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتَّى ترجعوا إلى دينكم» (3).
بل يقول النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- لما سألته زينب بنت جحش:"أنهلك وفينا الصَّالحون" قال: «نعم، إذا كثر الخبث» رواه البخاري 3346]، فالمعاصي والمنكرات سببٌ لغضب الله ومقته وعقابه {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴿12﴾ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﴿13﴾ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 11-13]، {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشُّورى: 30]، وأدل دليل من الواقع (مرض الإيدز) حيث يقول النَّبيُّ الكريم -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاَّعون والأوجاع الَّتي لم تكن مضت في أسلافهم الَّذين مضوا» (4).
3- الجرأة وذهاب الحياء:
فمن مخاطر ترك الحسبة تجريء المفسدين وتأمينهم مما ينعكس على المجتمع في شكل أخطار تهدد العقائد والأنفس والأموال والأعراض والشَّباب والأسر، وبالتَّالي يذهب الحياء وتنتكس الفطرة فتصبح كثير من المنكرات لكثرة وجودها مألوفات، يبدأ المجتمع في أوَّل الأمر بإنكارها وتأباها النُّفوس والفطر السَّليمة، ثمَّ مع كثرتها تصير عاديةً ثمَّ مألوفةً ثمَّ تصير معروفًا يدافع عنه ومن أمثلة ذلك (التَّبرُّج- التَّهاون في العلاقات بين الجنسين أنموذجًا)، وعن أبي مسعود، قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «إنَّ ممَّا أدرك النَّاس من كلام النُّبوَّة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» (5).
4- الفساد عبر القدوة:
من مخاطر ترك الحسبة ظهور أهل الفساد كقيادات في المجتمع خاصًَّة بالنِّسبة للشَّباب والتَّالي يصبح الشَّباب بغير انتماءٍ حقيقيٍّ لدينه وأمَّته، كما أنَّ غياب الحسبة يجعل من لا يريد المنكر ابتداءً يفعله إقتداءً، بمعنى أنَّ المنكر تزيَّن له من قبل أهل الفسق لتركهم دون حسيبٍ ولا رقيبٍ فكان الإغراء والإغواء، وبهذا ضلَّ كثيرٌ من الشَّباب وتاهوا، ويمكن ملاحظة ذلك جيِّدًا عندما نرى فتيات وشباب المسلمين يتخذون قدواتٍ فاسدةً من فاسقي الغناء وفاسقاته فيبدءون بتقليدهم في مشيهم وحركاتهم ولبسهم بل وحتَّى في أفكارهم.
5- غرق سفينة المجتمع:
فالحسبة هي الَّتي تقود السَّفينة بسلامٍ وأمانٍ دون أن يهلك الجميع، وبدونها يكون الهلاك بكلِّ معانيه من ذهاب القيم والحياء وظهور الفساد، وقد حذَّر النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- من مغبة ترك السُّفهاء دون الأخذ على أيديهم، ووصف ذلك بأنَّه الهلاك، فعن النُّعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عنِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينةٍ، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الَّذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنًَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا» (6).
_________________________________
(1) انظر: أهمية الحسبة في النِّظام الإسلامي (ص54-57) لعبد الرَّحمن بن حسن البيتي.
(2) رواه التِّرمذي 2169 وحسَّنه الألباني.
(3) رواه أبو داود 3462 وصحَّحه الألباني.
(4) رواه ابن ماجه 3262 وحسَّنه الألباني.
(5) صحيح البخاري 6120.
(6) صحيح البخاري 2493.