من وحي سورة هود
إن المتفكر في موقف سيدنا هود وقوته وجرأته في مواجهة قومه واستعلائه عليهم حين يقول لهم إني {بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود: 54- 55].
وقد وقف أمامهم وحيدا مستضعفا وهم من عرفوا بقوتهم وجبروتهم {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]. {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [سورة الأعراف: 69]. {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130].
إذا من أين أتى بهذه القوة وذلك الاستعلاء في مواجهته لهم؟
وتأتي الآية إلى تليها لترد ذلك التساؤل...{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56].
إنه يحمل شيئا في قلبه يرى معه كل متكبر حقير وكل متغطرس ذليل إنه يحمل عقيدة منشؤها من عند سدرة المنتهى فناسب استعلاؤه بها ذلك المنشأ، وهي من تحت عرش الرحمن، فأي غبي حقير يقف أمام تلك العقيدة؟
ثم إن الله اختار لحمل هذه العقيدة أقوى ملائكته -جبريل عليه السلام- وهو من وصفه النبي بقوله «رأيت جبريل وله ستمائة جناح» [إسناده جيد. الراوي عبد الله بن مسعود، المحدث: ابن كثير –تفسير القرآن- (427-7)]، وفي رواية «وخلقه ساد ما بين الأفق» [صحيح البخاري (3234)].
فناسبت قوة نبينا هود في مواجهته لقومه بعقيدته قوة حاملها فاستقر في قلبه أن هؤلاء الأذلاء لا يقدرون عل شيء إلا ما قدره الله ف {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}، فليزيدوا من تهديدهم ووعيدهم...
{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} وليتمادوا من في أساليب الضغط والقهر...
{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} ولتعلو أصوات التشويه والتشنيع {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54]...
{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}... {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56].
إشعار بالثبات والاستقامة على هذه العقيدة الراسخة فهي ممتدة إلى آخر الزمان وتمسكه بها لا يتغير بتغير الأحوال والظروف.
فلن تجد له ظروف سياسية تجعله يهادن في عقيدته ولن تضطره ظروف اجتماعية لأن يقول هذا ليس وقتها.
فالاستقامة والثبات مادامت هذه العقيدة إلى نهاية الزمان.
وعلى العكس من فكرة الترهيب التي استخدمها قوم هود مع نبيهم كانت فكرة الترغيب في تعامل قوم صالح مع نبيهم حين واجههم بعقيدته {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود: 62]، محاولة الاستمالة بأنه له مكانة بين قومه وبأنه صاحب رأي وكلمة بينهم وإشباعا لغروره بأنه قائد عظيما فينشرح صدره بذلك المكسب ويتغاضى عما يحمله في قلبه من عقيدة، ذلك الأسلوب الذي طالما استخدمه أعداء الحركة الإسلامية للنيل من قادتها وقد وقع أعنى قادات الجماعات الإسلامية في سجون مصر بذلك الأسلوب في السنوات الأخيرة فهذا هو مسؤول الزيارات في السجون وذلك من يتحدث باسمهم إلى أخر تلك الأساليب التي تشبع روح القيادة عند الفرد، وهو متوقع في الفترة القادمة في مفاوضات رأس الكفر أمريكا و تعاملها مع قيادات التيارات الإسلامية خاصة بعد اكتساح تلك التيارات للساحة السياسية فلم يعد هناك مجال لاستخدام أسلوب الترهيب.
إلا أن سيدنا صالح وقد آتاه الله فهم النبوة فهم أنه إن استجاب لإشباع غروره وانقاد وراء ذلك الجذب الحسي قد انقطعت صلته بمنشأ العقيدة انقطعت صلته بالسماء وبقى رهن ذاته يشبع رغبته بالمدح والثناء فيخسر عقيدته ويخسر نفسه معا يخسر عقيدته لأنه تنازل عنها بثمن بخس ويخسر نفسه لأنه بعد فعل المطلوب منه من تنازل سيصبح ورقة لا قيمة لها في نظر أعدائه وحتما يسقط من نظرهم بعد أن سقط من عين الله وتتكشف له الأمور لا هو ثبت على عقيدته ولا هو ذو مكانة بين البشر... فكان جوابه لهم {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود: 63].
ولذلك كان من دعاء نبينا «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، و لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» [حسن، الألباني -صحيح الجامع- (5820)].